[size=24]
[size=16][size=9]3-نظرة عامة حول المرحلة الأولى لجمع القرآن.
نلاحظ الآن أن آتجاها معينا أصبح يبرز بوضوح. الروايات الرسمية تحاول أن تظهر لنا أن المشروع الذي قام به أبو بكر بخصوص جمع القرآن كان هو الأهم و الوحيد الذي تم بعد وفاة محمد. حاول العلماء بعد ذلك أن يدعموا هذه الفكرة مدعين أن زيدا كان الشخص الوحيد المؤهل للقيام بالمهمة و أن القرآن كان بشكل أو بآخر موجودا ببيت محمد و أن الأشخاص الذين قاموا بعملية الجمع اعتمدوا على ما تمت كتابته تحت الإشراف الفعلي لمحمد نفسه و لا شيء غير هذا. يذهب العلماء المسلمون أبعد من هذا حيث يزعمون أن المصحف كما تم جمعه كان صورة طبق الأصل لما جاء به محمد لم يضف إليه لا حرف و لا كلمة و لا نقطة و لم يفتقد منه أي شيء من هذا القبيل.
من جهة أخرى وجب القول بأن التحليل الموضوعي لمسألة جمع القرآن في المرحلة البدائية و الذي يجب أن يعتمد على المعطيات المدونة سيمكننا من إبراز أن النص الذي جمعه زيد و الذي أصبح فيما بعد النمودج الذي اعتمد عليه المصحف العثماني ما هو إلا المنتوج النهائي لمحاولة صادقة لجمع القرآن انطلاقا من مصادر متنوعة كان الرجوع إليها أمرا ضروريا.
يجب علينا الآن أن نقوم بتقييم للمصادر التي اعتُمِد عليها بإعادة النظر فيها. اعتمد زيد بن ثابت على صدور الرجال و على ما كُتِب من القرآن كيفما كانت المواد التي استعملت في ذلك. مهما كانت المجهودات التي قام بها الصحابة الأوائل لحفظ القرآن بشكل كامل فإن ذاكرة الإنسان تبقى دائما عرضة للنقصان و الخطأ. إذا أخذنا بعين الإعتبار طول القرآن (أي ما وجب حفظه) فليس من الغريب أن نجد اختلافات في طرق قراءة القرآن و لذلك سيظهر لنا جليا أن هذا الإرتسام مبني على أسس صحيحة.
فكرة أن زيد اعتمد على ما كان متناثرا في ذاكرات الصحابة وجب أن تؤدي إلى بعض النتائج المنطقية التي لا مفر منها. هناك احتمال ضياع أجزاء من النص لأن هذا الأخير لم يكن مجموعا في كتاب واحد بل كان متناثرا بشكل واسع. هذا ما سيتضح حين سنقدم الدلائل المؤخوذة من الثرات الإسلامي القديم.
المثال النمودجي الذي وجب تقديمه بخصوص هذه المسألة يتجلى في الحديث التالي الذي يؤكد بوضوح أن أجزاء من القرآن فُقِدت نهائيا إثر مقتل بعض الحفاظ من الصحابة في معركة اليمامة :
"حدثنا أبو الربيع قال أخبرنا بن وهب قال أخبرني يونس عن بن شهاب قال : بلغنا إنه انزل قرآن كثير فقُتِل علماؤه يوم اليمامة الذين كانوا قد وعوه فلم يُعْلَم بعدهم و لم يُكْتَب ‚ فلما جمع أبو بكر و عمر و عثمان القرآن و لم يوجد مع أحد بعدهم." (كتاب المصاحف 23)
لا يمكن تجاهل كون هذا الحديث يستعمل أسلوب النفي بوضوح : "لم يعلم"‚ "لم يكتب"‚ "لم يوجد" تاكيد ثلاثي على أن هذه الأجزاء من القرآن التي كان يحفظها قراء اليمامة فقدت بدون رجعة. في المقابل يظهر أنه من الصعب تصور أية زيادة أو تغيير في القرآن بعد وفاة محمد لأن أجزاء النص كانت موجودة بطريقة متناثرة عند الصحابة لكن إمكانية ضياع بعض الأجزاء من النص تبقى واردة كما ذكرنا سالفا. إذا كان جزء مهما من القرآن احتُفِظ به عن طريق الحفظ فهذه ضمانة أكيدة أن لا أحد من الصحابة كان بإمكانه إضافة شيء إلى القرآن دون أن يلقى معارضة الأخرين. (1)
في الأخير حين نستعرض المصادر الأصلية يجب أن لا نستغرب من كون مصاحف أخرى كانت حيز الجمع زيادة على المصحف الذي تكلف زيد بجمعه. كان هنالك عدد من الصحابة الذين كانت لهم دراية واسعة بالقرآن و كان من الحتمي أن يحاولوا تأليف ما كان لا يزال متبثا في ذاكراتهم على شكل مصحف مستعينين كذلك بما كان مكتوبا. كنتيجة حتمبة سنرى أن ما توقعناه من نتائج بخصوص جمع كتاب كالقرآن أمر تدعمه النصوص التاريخية خلافا للفرضية القائلة بأن الحفاظ على الكتاب تم بفضل العناية الربانية دون أدنى نقصان أو تغيير.
امكانية فقدان بعض أجزاء النص واردة في عدة أحاديث نبوية تبين بعضها أن محمدا كان هو نفسه عرضة لنسيان بعض أجزاء القرآن :
"حدثنا موسى يعني ابن إسمعيل حدثنا حماد عن هشام بن عروة عن عروة عن عائشة رضي اللهم عنها أن رجلا قام من الليل فقرأ فرفع صوته بالقرآن فلما أصبح قال رسول الله صلى اللهم عليه وسلم يرحم الله فلانا كائن من آية أذكرنيها الليلة كنت قد أسقطتها" (كتاب الحروف و القراءات سنن بن أبي داود رقم 3456)
وضع مترجم المرجع السابق إلى الأنجليزية ملاحظة هامشية بين فيها أن محمدا لم ينس بعضالآيات تلقائيا بل الله هو الذي أنساه إياها مقيما بذلك عبرة للمسلمين. مهما كانت الغاية و الأسباب فالمهم هو أن محمدا تعرض لنسيان بعض القرآن الذي أقر أنه أوحي إليه. القول بأن النسيان كان من الله يعتمد على الآية التالية :
" مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (سورة البقرة 2 الآية 106)
كلمة آية تعني النص القرآني ذاته و كلمة ننسها أصلها من فعل نسي الذي يعني أينما وجد في القرآن (وردت 45 مرة على مختلف الأشكال) فقدان الشيء من ذاكرة الإنسان.
لنعطي الآن خلاصة لما قيل في هذا الجزء.
حاول زيد بن تابث الذي كان من الصحابة ذوي المعرفة العميقة بالقرآن أن يدون قدر مستطاعه مصحفا أقرب ما يكون إلى الموثوقية. روح الأمانة التي اتصف بها خلال قيامه بمشروعه ليست موضع شك. لذلك يمكننا أن نقول بأن المصحف الذي قدمه في الأخير إلى أبي بكر لم يكن إلا تعبيرا صادقا عن ما جمعه من صدور القرأء و من ما كتب على مختلف المواد لأن هذا هو ما تعكسه النصوص المؤخوذة من التراث الإسلامي الأصيل. نفس النصوص تنفي الفرضية الحديثة القائلة بأن المصحف الحالي هو نسخة طبق الأصل للقرآن الأول لم يحذف منها شيء و لم يمسسها أي تغيير. ليس هناك ما يدل على أن النص تعرض للتحريف و كل محاولة لتأكيد ذلك (كما فعل بعض الباحثين الغربيين) يمكن ضحضها بسهولة. بالمقابل هناك أدلة عديدة على أن القرآن كان غير مكتمل وقت تدوينه في مصحف واحد (كما رأينا سابقا) و أن كثيرا من فقراته و آياته انتقلت على أشكال مختلفة. سنتمكن من خلال هذا الكتاب أن نستعرض الوقائع التي تبرهن على مقولاتنا و كذا نتائجها الحتمية.
(1) {هذا لا يدل على استحالة زيادة بعض الفقرات في النص الأصلي, الإسراء مثلا}
[/size][/size][/size]