الفصل الأول
المرحلة الأولى لجمع القرآن
1-تطور القرآن في عهد محمد
أي بحث في موضوع جمع القرآن يجب أن يبدأ بالنظر في مميزات الكتاب نفسه كما بلَّغه محمد إلى أصحابه. لم يُبَلَّغ القرآن أو يوحى كما يعتقد المسلمون مرة واحدة بل جاء على أجزاء خلال فترة من الزمن دامت 23 سنة امتدت منذ بدأ محمد يدعو للإسلام في مكة سنة 610 ميلادية إلى وفاته في المدينة المنورة سنة 632 ميلادية. ففي القرآن نفسه نجد : "قال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا"(سورة الفرقان 25 الآية 32)
زيادة على هذا لم تصلنا لا من محمد ولا من أصحابه أية معلومات عن الترتيب الزمني للفقرات حيث أنه حين بُدِءَ في جمعها على شكل سور لم يؤخد بعين الإعتبار لا الموضوع و لا التسلسل من حيث النزول. كل العلماء المسلمون يُقِرُّون بأن جل السور و على الخصوص الطويلة منها هي خليط من المقاطع التي ليست بالضرورة متصلة ببعضها البعض حسب التسلسل الزمني. مع مرور الوقت أصبح محمد يقول لكُتَّابه : "ضعوا أية كذا في موضع كذا" (السيوطي‚ الإتقان في علوم القرآن م 1 ص 135) و هكذا أصبحت تضاف إلى الأجزاء التي كانت مجموعة أنذاك مقاطع أخرى إلى أن تصبح سورة مكتملة. بعض هذه السور كانت لها أسماء في عهد محمد كما يتبين لنا من خلال الحديثين النبويين التاليين :
"من قرأ هاتين الأيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه"
(كتاب صلاة المسافرين‚ صحيح البخاري حديث رقم 1341)
"من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عُصِمَ من الدجال" (نفس المرجع‚ حديث رقم 1342)
في الوقت ذاته هناك دلائل على وجود سُوَرٍ لم يعطها محمد أية أسماء. فسورة الإخلاص (رقم 112) على سبيل المثال لم يُسَمِّها محمدٌ على الرغم من أنه تكلم عنها مُطَوَّلا و ذكر أنها تساوي ثلث القرآن
(الحديثين 1344 و 1346 من كتاب صلاة المسافرين‚ صحيح مسلم)
حين صارت الآيات القرآنية تتكاثر أصبح أصحاب محمد يكتبون بعضا منها و يحفظون البعض الآخر عن ظهر قلب. فمن الظاهر أن الحفظ كان يشكل الطريقة الرئيسية للحفاظ على نص القرآن لأن كلمة "قرآن" تعني "القرآءة" و لأن أول كلمة قال محمد أنها نزلت عليه حين حصلت له رؤيا جبريل في غار حراء كانت هي كلمة "إقرأ" (سورة 96 الآية 1 فكانت القراءة الشفهية ذات قيمة عالية و كانت جد متداولة بين الناس. مع كل هذا ففي القرآن نفسه ما يدل على أنه مُدَوَّنٌ كِتابيا كما تشهد الآية التالية :
"في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي كرام بررة" (سورة عبس 13-16)
هناك أيضا حجج على أن أجزاء من ما كان موجودا من القرآن في المرحلة المكية كتب آنذاك. هناك رواية تحكي أن عمر بن الخطاب حين كان لا يزال كافرا ضرب أخته في بيتها بمكة حين سمعها تقرأ بعض القرآن فلما رأى ما أصابها من الدم قال لها : "اعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرؤون آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد" (سيرة بن هشام مجلد 2 صفحة 190) () و حين قرأ قسطا من سورة طه (السورة 20) التي كانت أخته و زوجها يقرآنها قرر الدخول في الإسلام. مع هذا يتضح لنا أن الحفظ كان هو المنهج السائد إلى حين وفاة محمد و كانت تعطى له أهمية أكبر. ففي الحديث النبوي ما يدل على أن جبريل كان يحقق و يراجع القرآن مع محمد كل سنة خلال شهر رمضان و في السنة الأخيرة راجعه معه مرتين. عن فاطمة ابنة محمد :
"أسر النبي صلعم أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة و أنه عارضني العام مرتين و لا أراه إلا حضر أجلي " (صحيح البخاري كتاب فضائل القرآن 4612)
لقد كان بعض الصحابة المقربون من محمد يكرسون كل جهدهم لتعلم القرآن حفظا عن ظهر قلب. من بين هؤلاء نجد من الأنصار أبي بن كعب و معاذ بن جبل و زيد بن ثابت و أبو زيد و أبو الدرداء
(صحيح البخاري كتاب فضائل القرآن 4620) بالإضافة إلى مجمع بن جارية الذي قيل أنه لم يحفظ إلا بضعة سور في حين كان عبد الله بن مسعود و هو من المهاجرين و من أوائل الصحابة يحفظ أزيد من تسعين سورة من بين السور المائة و أربعة عشر التي يحتويها القرآن و تعلم البقية من مجمع
(بن سعد كتاب الطبقات الكبير مجلد 2) (1)
لا تتوفر لدينا أية معلومات كافية عن مقدار ما تمت كتابته من نص القرآن في عهد محمد. فبالتأكيد ليس هنالك أي دليل على أن مجموع القرآن كتب آنذاك في مصحف واحد سواء تحت الإشراف المباشر لمحمد أو غيره. من خلال المعلومات التي نتوفر عليها حول جمع القرآن بعد وفاة محمد (سنستعرضها قريبا) نستنتج أن القرآن لم يتم أبدا وضعه في مصحف واحد في عهد محمد. توفي هذا الأخير فجأة سنة 632 ميلادية بعد مرض لم يدم طويلا و بوفاته اكتمل القرآن و انقضى نزوله و لم يعد من الممكن إضافة آيات أخرى إليه نظرا لانتهاء نبوة محمد. حين كان لا يزال على قيد الحياة كانت هناك دائما إمكانية نزول أجزاء جديدة من القرآن و لهذا لم يكن من الائق جمع النص في كتاب واحد و هو أيضا ما يفسر كون القرآن بقي مفرقا بين ما في ذاكرة بعض الناس و ما في مختلف المواد التي كان مكتوبا عليها وقت وفاة محمد.
سنرى فيما بعد أنه بشهادة القرآن نفسه كان من الوارد نسخ بعض الآيات خلال فترة النزول (بالإضافة إلى ما تم نسخه من قبل) و هذا ما يحول دون جمع النص في كتاب واحد ما دامت إمكانية نسخه قائمة.
إضافة إلى كل هذا يظهر لنا أنه لم تكن هناك سوى نزاعات قليلة حول نص القرآن فيما بين الصحابة حين كان محمد لا يزال على قيد الحياة خلافا لما سيقع بعد موته. كل هذه العوامل تفسر غياب نص قرآني رسمي و موحد وقت وفاته. إمكانية نسخ أجزاء من القرآن و احتمال نزول آيات جديدة -لا يوجد في القرآن ما يدل على تمامه أو على آستحالة نزول آيات جديدة- حالا دون محاولة جمعه خلافا لما قام به أصحاب محمد بعد موته. يتبين كذلك أن الآيات القرآنية صارت تنزل على محمد بشكل مكثف قبيل وفاته و لذلك آستمنع جمعها.
"حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِي اللَّهم عَنْهم أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَابَعَ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيَ قَبْلَ وَفَاتِهِ حَتَّى تَوَفَّاهُ أَكْثَرَ مَا كَانَ الْوَحْيُ ثُمَّ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ"
(صحيح البخاري كتاب فضائل القرآن 4599)
عند نهاية المرحلة الأولى التي مر منها القرآن نجد أن محتواه كان موزعا بشكل واسع في ذاكرات الناس بينما كانت بعض أجزاءه مكتوبة على مختلف المواد التي كانت تستعمل آنذاك في الكتابة لكن لم يكن هنالك أي نص موحد أمر به للأمة الإسلامية. لقد ذكر السيوطي أن القرآن قد كتب كله في عهد محمد و بقي محتفظا عليه بعناية بالغة لكن لم يجمع في موضع واحد قبل موته (السيوطي الإتقان في علوم القرآن م 1 ص 126) و قيل أنه كان متوفرا بأكمله مبدئيا (في ذاكرة الصحابة و أيضا على شكل مكتوب). أما التسلسل النهائي للسور فقد قيل أن محمد قد أمر به شخصيا.
(1) تكلم البخاري في صحيحه -كتاب فضائل القرآن- عن بضع و سبعين سورة "حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا شقيق بن سلمة قال خطبنا عبدالله بن مسعود فقال والله لقد أخذت من في رسول الله صلى اللهم عليه وسلم بضعا وسبعين سورة والله لقد علم أصحاب النبي صلى اللهم عليه وسلم أني من أعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم قال شقيق فجلست في الحلق أسمع ما يقولون فما سمعت رادا يقول غير ذلك"